أمسكت سارة الفكَّة و وضعتها في يد قاطع تذاكر الحافلة ؛ و صُدِمَت عندما بدأ هو أيضا بالصراخ عليها و إهانَتِها و أَلْجَمَهَا الذُّهول لفعله المنحرف و سلوكه الظالم … و هو يتَّهِمُها بأنَّها رمت عليه الدَّنانير بعنف

و انتبهت إلى أنَّه يرمق الفتاة الأخرى (التِّي كانت على صفة الكمال من الملبس و الماكياج و العطر و الغنج و الدَّلال ) ويتبادل معها الضَّحكات و هو يرغي و يُزبِد و يطلب رضاها بهوان سارة التِّي لم يكن لها من كلِّ الرُّكاب نصيرٌ و لا معينٌ في مَظْلَمَتها هذه ؛ هنا انهارت كل أسْوار التَّحفُّظ من دنيا سارة و هاجمتها جيوش الشَّجى فنزلت من الحافلة باكيةَ الْقلب غزيرةَ دمعِ العيْن لاترى أمامها من الكَمَد لا تدري كيف طَوَتِ الأرض وصولًا إلى البيت لتنخرط أمام الجميع في نوبة بكاء مُضنٍ طالَ أمدُه لا أحدَ يعلم مابها؛ قد خنقتها الغُصَّة و توقَّف الكلام في حلقها و مضت تَرجوهم أن يَدَعُوها تُفْرِغُ الشّحنات و تحكي قصَّة الألم لاحقا

في هذه اللَّحظة يعود أسامة من العمل ؛ يُغلق الباب و يهُمُّ بالدُّخول صارخًا كالعادة على سارة التِّي لم تجهِّز الغداء بعد ؛ أسامة بالنسبة لسارة هو صورة أخرى من الظلم في المجتمع الذكوري : هو الأخ الذي له كل حقٍّ و ليس عليه أيُّ واجب ؛ يكبرها بعام فقط و لكنَّه الملك المُتَوَّج في البيت وعلى هذا كثيرا ما كانت تدور بينهما النِّقاشات و الملاسنات عند رغبته في مشاهدة المباراة متى شاء و استعماله الانترنت كما يريد في حين أنَّها هي لا تُهِمّ.

توقَّف الزَّمن و تعطَّل الرُّوتين في اللحظة التِّي رأى فيها أسامة أختَه سارة تبكي بنزْعٍ مرير و تخطَّفته الظُّنون و مضى يسأل الجميع: “ما بها؟” ثمَّ نزل عليها : “ما الأمر يا سارة؟ ؛ أَرْعَبْتِنِي ماذا حدث؟ ؛ مايبكيكِ هكذا؟ ؛ هل من مصيبة؟ ؛ أوقَفتِ قلبي يا سارة ؛ تكلَّمي باللَّه عليك؟” ؛ سارة عندما رأت ما وقع على أهلها من الخوف و الرِّقة لها بدأت تُخبرهم بالقصَّة في خليط من الحزن و الدَّمع و القهر و كلِّ أنواع السوائل ؛ شَكَتْ لهم بحالها الظُّلم و الهوان على الناس و قلَّة الحيلة…؛أسامة الأخ التَّقليدي طلب من سارة أن تكفَّ عن البكاء و ترك البقيَّة يطيِّبون خاطرها و خرج من البيت -بدون غداء هذه المرة- بعد أن أخذ منها معلومات وافية عن خطِّ الحافلة حيث عَلَّمَ الْهَوِيَّة .

نزل أسامة إلى الشارع و الغضب يَفُتُّهُ و حمل في يده عصا و مضى إلى محطَّة الحافلات في الحي و عينه تقدح شررًا و الحنق قد أخذ بأوصاله فالتقاه صديقه زيد و مشى في عَقِبِهِ يسألُه : “ما الأَمرُ يا أسامة؟ ؛ ما بك يا صاحبي؟” … ثمَّ لم يلبثِ الأمر الا قليلا حتَّى علا في الحيِّ منادي : “أسامة راح يضَّارب”  فنزل كلُّ شباب الحيِّ في أيديهم العِصِيُّ و الْحجارة قد عوَّلوا على الشَّرّ و بيَّتوا النِّيَّةَ في نُصْرة بن الحيِّ لا يعلمون دليلا و لا يطلبون شاهداً ؛ و ما أذَّنَ الظُّهر إلَّا وقد وصلت الحافلةُ تَجُرُّ خطَّ سيرِها المعتاد و وقفت في المحطَّة تريد أن تُنزِل بعض الزَّبائن و تحملَ آخَرين ؛ و لم يُرَع الرُّكَّاب إلَّا و قد أحاط بها عشرات الشبان و الغضب يعلو المحيَّا و الشَّر يقدح في الأجواء و أحاطوا بالحافلة من كلِّ جانبٍ يطلبون قاطع التَّذاكر و يبحثون عنه و كُلُّهم يطمع أن يكون أول من يمسك به ؛ و أنزلوا الرُّكَّابَ و عمَّ الهرج و المرج و صار الناس يصرخون في طلب النَّجاة  و رأى أحدُهم الشَّابَ المطلوبَ يختبئ في احد أركان الحافلة يريد الفرار فانقض عليه من الخارج و امسك بخناقه يدعمه بعض الشَّباب و أخذوا يُخرجونه من نافذة الحافلة ثمَّ أوقعوه أرضا و بدأوا يدوسونه من كل جانب و نادوا أسامة : “هو دونك”  فهجم أسامة عليه و قد أخذ بتلابيبه يهزه هزا منكرا : “واش دَّاك للطُّفلة” قالها صارخاً بأعلى صوته و الغضب متمكِّن من وجدانِه فمضى الجاني ينفي تارةً و يُبرِّر أخرى و يعتذر أحيانًا و يطلب الصَّفح و هو يبكي بالصَّوت العالي ثمَّ تدخَّل صاحب الحافلة (و هو رجل كبير) يهدِّئُ الوضع و يدعو لتحكيم العقل  فتوجَّه إليه الجميع يسألونه أين كان عندما كان الفتى يُهين ابنة الحيِّ؟ و كيف غابت حكمته التِّي أبداها الآن؟ و ماذا فعل بضميره ليتواطأ على ظلم بنات الرجال؛  فناشدهم  العفو و الصَّفح له و للفتى و أقسم لهم بكلِّ الأيْمان أنَّهم إنَّما مخطئون غافلون و أنَّهم لن يعودوا إلى فِعلَتِهم أبدًا ؛  فهمَّ الشباب بهم يريدون أن يُبرِحوهم ضربًا و يحرقوا الحافلة لا يَقبلون منهم قولًا و لا صرفًا ؛ فوقف أسامة دونهم و خشي العاقبة و خاف على الأرواح فناشدهم الهدوء و دفعهم عن الشَّاب و سألهم أن يتركوه هو يقضي فيه بحكمه و حال بين الشباب و الرَّجلين و لم يتوقف الهرج إلاَّ بعد أن طلب من أصدقائه الإنصراف و أخبرهم أنَّ حقَّه قد وصله و طابَتْ نفسه ؛ فانصرف عزيزا و مضى الآخَرُ ذليلًا به من الجراح ما يذكِّره بفعلته ؛ و لم يُشاهَدْ بعد ذلك اليوم على خط النَّقل ذاك.

أمَّا سارة فقد أدركت أنَّ العزَّة لله جميعا ؛ و أنَّ كلَّ من في الأرض لو اجتمعوا على نصرتها لم يفعلوا شيئا ؛ و أنَّ الله لو شاء لعبده رزقًا او نصرًا او عزًّا لساقه له على أعناق الرجال أو فوق أجنحة البعوض ؛ فألزمت نفسها الرِّضا و اتَّخذت اليقين و التوكُّل لها شفيعا و الله حسبها .

 

“عن قصة حقيقية”

 

اقراي الجزء الأوّل من هنا 

 

 

…شمس هنية