تركب سارة الحافلة أخيرا في طريق عودتها الى البيت بعد الإنتظار المُطوَّل تحت أشعة الشَّمس اللَّاذعة و تعتليها متعبةً من الأفكار الثقيلة و الخواطر الحزينة عن الفشل المتكرِّر في البحث عن العمل و السَّعي الخائب وراء كل الفرص الضائعة منها إلى غيرها من أولي الحظوظ و أصحاب التسهيلات و ذوي النصيب ؛ و تقف حانقةً في زاوية الحافلة و الغضب يتزايد في قلبها من الوقت الرديء و الرُّجولات الغائبة و هي تحدِّثُ نفسها عن الزَّمن الذِّي كان فيه الرِّجال يقفون من المقاعد لتجلس النساء و هاهم الآن لا يجدون سببا ليقوموا حتى لشيخٍ أو عجوز ؛ تقول ذلك في نفسها و هي تشاهد سيِّدة مُسِنَّةً قد أتعبتها الايام تلتفت يمينًا و يسارًا علَّها تجد مكانا خاليا تُلقي عليه جسدها الضئيل و تمنَّت في نفسها لو أن لها مقعدا فقط لتقوم لها منه ؛ ثمَّ تستمر الأفكار السيِّئة في التَّوارُد و تتذكَّر لوهلةٍ عامل المؤسَّسة الذِّي أمعن في التأكيد لها أنّ الوظائف المعلَنة التي جاءت لأجلها معروفٌ أصحابُها و مُنْتَهٍ أمرها و أنَّ الإعلان الذي قرأتْهُ إنما هو ذرٌّ للرَّماد في العيون و إجراءٌ روتينيٌّ لا غير.

 على ان سارة سمعت هذا الكلام مرارا في مُجمَل محاولاتها للعثور على عمل فهي لاتزال تُمنِّي نفسها أنَّ الحظَّ سيواتيها يوما ما بمنصب “لا صاحب له”  ربما فقط ليس اليوم ؛ و لكن هذا الإحباط سيُضافُ إلى قائمة الإحباطات الأخرى لتترسَّخَ عندها القناعة بأنَّ حلُمها سيبقى حلماً و أنَّ بلاءَ المحسوبيات في الوظائف قد عمَّ و أصحابُ الشَّهادات الحقيقيَّة مُحَيَّدون في هذا البلد مغيَّبون عن مواقع الكسب التِّي أفنَوا أعمارَهم في طلبها بالجِدِّ و الاجتهاد و الطُّرُق المستقيمة.

و تستمرُّ في الاسترسال الحزين و هي تذكر سنوات الدراسة و الجدّ و الشَّقاء و الضَّنك المرادفة فعليًّا لمعنى المعاناة في تحصيل العلامات عندما كانت تتعرَّض و مثيلاتُها للضُّغوط من أجلِ الْحصول على نقاطهنَّ المستحقَّة و يُطالَبْنَ بالإبتسامةِ العذبة و الكلمة الحلوة و العطر النفَّاذ و تَحَمُّلِ غلاظة الأساتذة و الصَّبرِ على تلميحاتهم السخيفة و نُكاتِهم السَّمِجة المُرافِقة دائما لكل سؤال علمي او استفسار أكاديمي ؛ و طبعا الأوفرُ حظًّا هي الأكثر جمالا و الألطف حديثا و التي تُتقن “إدارة علاقاتها” مع الجميع و كأننا في إحدى مسابقات الجمال (ما لم تكن سارة منافِسَةً فيه بمظهرها المتحفِّظ و أسلوبها الرَّسمي) ؛ثم تتساءل مستدركةً :” كنتُ أظن أنَّ الأمر سينتهي في الجامعة و أنها سنوات قليلة و “صبر ساعة” فرفعت ُالتَّحدي بقوَّة المجالد و ألزَمْتُ نفسي التَّرفُّعَ و التَّعفُّف و صددتُ عنهم و وطئتُ بقدمي رغباتهم و صَوْلاتهم …و لكن و بعد سنتين من التَّخرُّج بات الأمر ساحقا لهمَّتي مدمِّرا لطاقتي مهينا لعزَّتي قد أعياني فيه طلبُ رزقي …”.

ثمَّ تستطرد : “و ليْتَني كُفِيْتُ هذا الأمرَ كلَّه بالزَّوج و الولد ؛ فواللهِ لاحاجة لي في عملٍ خارجَ البيت إذا استقرَّ قراري على قائم يكفيني و مُحِبٍّ يُؤويني و ولدٍ يفديني…” ؛  ثم تنهَّدت بحسرة عندما ذكرت إعراض الخُطَّاب و انصراف الرَّاغبين و عادت لتتساءل مجددا و قد استولى عليها فقدان الثقة و نقص تقدير الذَّات : “ألسْتُ جميلةً؟ كنت أظنُّ أنِّي كذلك ؛و كيف أكون جميلة و أنا لا أُعْجِبُ النَّاس ؟ لَيتَهم انتبهوا إلى مُورِّثاتي الجينيَّة (و كانت خرِّيجة علوم احياء) أليستِ العيون الخضراء امتيازًا؟ و البَشرة الزُّهرية طلبًا؟ و الشَّعر البندقيُّ الغزير هدفا عزيزًا و القوام ُالنحيفُ… و الجسدُ الْمُتَّسِقُ… لتعود الى الفكرة الأولى : ” أليسَت هذه المواصفات صفقة؟ لماذا يُعْرضُ عنِّي الْخُطَّابُ إذًا ؟..و الخاطب الأخير الذي لم يعد ..” لينقطع هنا حبل فكرها براكبةٍ أخرى بجانبها تصرخ فيها : “ابتعدي عنِّي ؛ أنت تُضايقينني ..”.

..سارة المُستفزَّةُ أصلاً من الدُّنيا ؛ المُستَنْفَرَةُ حرفيًّا من الضَّغط المستمِر عليها تنفجر فيها : “و هل الحافلة ملك أبيك؟ و هل الاكتظاظ عليك وحدك؟ أم علينا ان نوسِّع لفخامتِكِ المكان ؟ ؛ و إذا كان مقامك أعلى فلماذا تركت ِالطائرةَ و جئتِ هنا تزاحمين الرِّعاع ؟…”.

و هنا تزعق الرَّاكبةُ بالصُّراخ المَحمومِ و الكلام القبيح و الصَّوت العالي المذموم ؛ سارة الفتاة “المتربية” عندما استعادت إدراكها لوهلة و سيطر عليها العقل و المنطق عَلِمَتْ أنَّها في حافلة تعج بالغثِّ و السمين و الرجال و النساء و الكبير و الصغير و المليح و القبيح ؛ و أنَّ أَيَّ شابَّةٍ لائقةٍ عليها أن لا ترفعَ الصَّوت و أن لا تخوضَ معركةً على الملأ و أن تتجاهل كل صنوف الإزعاج و الأذى؛ فالتزمت مجدَّدا بالصَّمت و انسحبت في هدوء لعلَّ أن تصمت الحمقاء.

و اقتربت محطتها و توقَّفت الحافلة فنَفَرت للنُّزول مسرعةً فارَّةً بما بقي من كرامتها  ؛ و تركت لها الجمل بما حمل فربَّما أمكَنَها أن تجد المتَّسع و يكفيها المحل.

أمسكت الفكَّة و وضعتها في يد قاطع تذاكر الحافلة و صُدِمَت عندما بدأ هو أيضا بالصراخ عليها و إهانَتِها و أَلْجَمَهَا الذُّهول لفعله المنحرف و سلوكه الظالم.

 

اقراي الجزء الثاني من هنا 

 

 

…شمس هنية